كم شروق توالى على الدنيا منذ اكتمال استدارة كوكب الأرض وانتظامه فى مداره حول الشمس!!
كم شروق توالى على تلك الأرض التى كانت أول ما رأيت!! أقدم ما تحتفظ به ذاكرتى!! ذلك الأفق القاهرى، كم شروق توالى عليه منذ أن كانت أرضاً وعرة، موحشة، حتى سريان نهر النيل إليها، وتكون الأحراش ودبيب الحيوان وسعى المخلوقات كافة وجهاد الإنسان!!
كم شروق توالى منذ بدأ تحديد مسار الضوء عبر إقامة الجدران والنوافذ، مستطيلة، مستديرة، مربعة، الأسقف سواء كانت لمعابد تواجه مسارات النجوم والكواكب، أو مقابر تحفظ الموجود فى اللا موجود، منذ أن تشكلت ملامح أول مدينة نعرف اسمها «منف» فى الزمن العتيق، موقع توارثته عدة مدن، أسهم فى ظهوره عوامل شتى منها الجغرافى والسياسى والاجتماعى، والدينى والإنسانى بكل مستوياته، لا تزال أطلال «منف» إلى الجنوب من أهرام الجيزة، إنه الموقع الرمز، القريب من انشطار نهر النيل إلى فرعين يتجهان إلى البحر، يسافر فيه الماء القادم من الجنوب إلى الشمال،
أما مصدر الضوء الأقوى، الذى لا تقدر العيون على التطلع إليه والتحديق فيه، فيرحل من الشرق إلى الغرب، عابراً الأرض، والنهر الممتد بالعرض، هكذا حدد الإنسان الجهات، وكان ذلك منطلقه إلى رصد سمات الكون وعلاماته، وعندما شرع فى البناء، راعى المرجعيات الكبرى للوجود، فأضلاع الأهرام تواجه الجهات الأربع، والمدخل إليها دائماً إلى الشرق، كذلك يتجه تمثال أبوالهول مواجهاً الأبدية والحركة الكونية بابتسامته الغامضة، والتى يمكن أن نرى فيها المعانى المتناقضة، من سخرية إلى شجن إلى أسى على ما يمضى ويندثر، إنها نفس النظرة التى نراها عبر تحديق التماثيل المصرية القديمة فينا، المتجهة إلى اللا مكان، إلى ما يصعب تحديده. متى بدأ شروق الشروق؟
لا أدرى.
تماماً كما لا أقدر على تحديد أول شروق بعد وفادتى إلى العالم، بعد لقاء عينى بالضوء المسافر من الأبد إلى الأبد، من المصدر الكونى إلى موضع التلقى الإنسانى، عينى، لا يمكننى التذكر لأن الوعى لا يحتفظ باللحيظات الأولى، ربما يتردد صداها داخلنا، لكن أنى لنا أن نعي؟
كم شروقاً توالى علىّ؟
يصعب ذلك رغم سهولة الإجابة الظاهرية، ذلك أننى قادم من أمد يصعب تحديده إلى أبد يعسر تعيينه، وما بينهما أيامى تلك التى يمكننى الإشارة إليها، أن أسميها، رغم أنها تنقضى دائماً، لكن ما يسهل الأمر عليّ أن مكانها متعلق بها، بل إن زمانى لا معنى له بدون هذا المكان، كل لحظة تستدعى موضعاً بعينه، وكل موقع تحتويه لحظة، وقديماً قيل إن الزمن مكان متجمد، والمكان زمن متجمد، مكانى المرتكز، منطلقى، ذلك المسمى بالقاهرة، القاهرة القديمة تحديداً، القاهرة التى تعتقت فيها الأزمنة المتعاقبة، التى لا أدرى ولا ألم بعدد المرات التى توالى عليها الشروق، لكننى أعى أول طلوع للشمس فى ذاكرتى، يمد أفق المدينة، ومنه منطلقى وأول وثبى ورحيلى، فكما ترحل الشمس، يرحل الضوء، ونرحل معه.
كنا نسكن الطابق الأخير، الخامس، وكان يعد مرتفعاً بمقاييس الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى، من هذه النقطة بدأت صلتى بالزمن القاهرى، إلى الشرق هضبة المقطم الصخرية التى كانت مغمورة بمياه البحر فى زمن عتيق، قبل أن تنحسر المياه شمالاً مخلفة فى الصخور أسماكاً وأصدافاً وكائنات بحرية توحدت بالحجر.
إلى الغرب أهرام الجيزة، ومع متانة التحديق يمكن رؤية سلسلة الأهرام الأقدم، تتوالى عند خط الغرب، جهة مغيب الشمس، سقارة، دهشور، أبوصير، فى زمن طفولتى كان الأفق القاهرى مفتوحاً، لم تزحمه الأبراج المرتفعة التى تقوم الآن.
صعب على تذكر السبب الذى جعلنى أخرج بصحبة الوالد رحمه الله إلى السطح فجراً، غير أننى أعى تماماً وقوفى متطلعاً إلى ذلك اللون الأحمر الذى يجىء من عتمة الليل مزيحاً النجوم الأقاصى، احمرار خفيف لكنه قوى، يمهد لدرجة أقوى من الأحمر الغامق، حمرة متدفقة، مستمرة، تنبئ بمصدر خفى، تتعاقب درجاتها بحيث يصعب رصدها، أو حصرها، أو تعداد درجاتها، عند لحظة معينة يتدفق الضوء، كأنه ينفجر، ومن هنا سمى الفجر فجراً فى اللغة العربية.
من خلف صخور المقطم يبدأ البزوغ، مجرد خط نحيل يميل إلى استدارة، يتضح شيئاً فشيئاً، وبمجرد اكتمال ظهور القرص يصعد بسرعة، تلك لحظة لا تغيب عنى ولا تولى، إليها أنسب أى شروق أراه، استعدتها فى أوضاع شتى، وفى أماكن نائية، أسترجع تطلعى المبهور ودهشتى الطفولية التى ربما تشبه دهشة الإنسان القديم وهو لا يجد تفسيراً أو تبريراً، فيتخيل عبور السماء بقارب خفى، وتمتد الأذرع من قرص الشمس، خيوط الأشعة تنتهى بأيدىَّ، ذلك التطلع العميق، المبهور أفتقده الآن ، ليس لأنى أغيب عن شروق الشمس لكثافة البنيان، واختلاف الموقع، لكن لتوالى المظاهر، وتوالى الوقائع، واتضاح أمور شتى من خلال المعرفة، المعرفة التى تحد أحياناً من انطلاقة الخيال، لكن يظل الشروق الأول الذى احتفظت به ذاكرتى مهيمناً، مرجعياً، يؤطر المآذن، القباب، البيوت، أبراج الحمام، المدينة العتيقة وأهلها، أولئك الذين يعبرهم الزمن، ويعبرونه أيضاً.
...
مع الشروق يبدأ السعى، منذ الفجر تسرى الحركة، تخرج العربات التى تدفع باليد أو التى تجرها الحيوانات من مراقدها، أول ما يظهر منها العربات التى يقدم عليها الطعام، خاصة الفول المدمس، يوضع فى «قدرة» مستديرة كانت فى الماضى القريب من الفخار أو النحاس قبل أن يسود الألومنيوم، يتم النفاذ إلى داخلها بواسطة المغرفة، طويلة اليد، تخرج محملة بحبات الفول الذى استوى على نار هادئة، أصبحت لينة، ناعمة مثل الزبد، تدفس «القدرة» طوال الليل فى المستوقد، حيث الوقود الذى يشعل النار البطيئة التى يتم بها تسخين ماء الحمامات العامة والذى يصلها عبر أنابيب من فخار، تصب فى المغطس الملىء بالماء الساخن ومنه يتصاعد البخار فى فراغ محدود يجلس به الرجال ليلاً عرايا تماماً والنساء نهاراً، مع اندثار الحمامات العامة التى بلغ عددها أول القرن التاسع عشر ثلاثة آلاف، لم يتبق منها الآن إلا حوالى عشرين، بدأ باعة الفول يستخدمون وسائل مباشرة،
لكن فى كل الأحوال لابد أن تكون النيران هادئة تسوى الفول على مهل، حتى تنضج الحبات الصلبة، الجافة، وتلين بحيث تستحق الوصف الذى كان ينادى به الباعة على الفول «يا لوز» وللباعة القاهريين تراث طويل فى المناداة على بضاعاتهم فى أصوات منغمة، ويصل الأمر إلى تدليل البضاعة، فالطماطم لونها أحمر كخد العروس، والتين لا يشبهه شىء، أذكر فى طفولتى أربعة رجال ضخام الأجسام، كانوا يدفعون أمامهم عربة صغيرة، فوقها أنواع مختلفة من الكعك، بعضه مستدير، والآخر مربع، من أشكال شتى، كانوا يجيئون إلى الحارة مرتين، الأولى عند شروق الشمس، والثانية عند الغروب، وما كان يثيرنى، أصواتهم القوية التى ترتفع بالغناء.
ستين كعكة بقرش أبيض..
أصواتهم قوية وأحجامهم ضخمة، والعربة صغيرة جداً، أين هم الآن؟ كان الباعة القاهريون، ومازال بعضهم، ينغمون نداءاتهم، يدللون بضاعاتهم، كان العرض منذ نصف قرن أكثر من الطلب، وجودة البضاعة ضرورية لبيعها، الآن عدد السكان فى تزايد، وما يهم الكم وليس الكيف، أول صوت يسمع فى المدينة.
«حليب يا قشدة..»
باعة اللبن.. يجيئون من المناطق الريفية القريبة، مثل إمبابة والقناطر ودار السلام، يتجولون فى الحوارى والأزقة والدروب، يحمل كل منهم «قسط اللبن» المصنوع من الألومنيوم، محكم الغطاء جيداً، «القسط» بيد، والمكيال المختوم من مصلحة الدمغة والموازين بيد، الرطل وأجزاؤه. ومنذ الستينيات اعتمد الكيلو وحدة للوزن، ربما ابتعاداً عن كل ما يمت إلى الإنجليز الذين احتلوا مصر لمدة سبعين عاماً.
باعة اللبن يرتدون جلابيب بيضاء، لابد أن تكون بيضاء نظيفة، حتى منتصف القرن التاسع عشر كان المحتسب يفتش على نظافة الباعة، وجودة البضاعة، ويحدد شروط البيع، ثم حلت البلدية مكانه، كذلك إدارات وزارة الصحة، غير أن الانضباط القديم ولى الآن، فغش الأكل لم يعد من اختصاص صغار الباعة الفقراء المتجولين، إنما أصبح من مهام التجار الكبار جداً، الأثرياء الجدد، أصحاب النفوذ، الذين يستوردون الطعام الذى نفدت صلاحيته بأسعار بخسة ويطرحونه للبيع لتحقيق الأرباح الطائلة، مع تواطؤ الموظفين، صغارهم وكبارهم، يتوزع الباعة على نواصى الطرقات، عند مداخل الحارات، لكل منهم ركنه المعتاد، بالتحديد باعة الفول، الإفطار الشعبى فى مصر كلها، حتى الفنادق الحديثة، ذات الخمسة نجوم تحرص على تقديمه.
الفول يقدم فوق العربات اليدوية، العربة منمنمة، مزوقة، ألوان متضادة، الأحمر يقابل الأخضر، الأزرق يقابل الأصفر، عبارات مطمئنة، تؤمن البائع والمشترى معاً.
الأرزاق على الله
توكلت على الله
أو آية قرآنية
«كلوا من طيبات ما رزقناكم»
لكل عربة فول بروزان، الأول يوضع فوقه الخبز القاهرى المعروف بالبلدى، ولكل منطقة فى مصر خبزها، لكن القاهرة الأشهر، ومنه أنواع: الطرى، الملدن «الوسط» والمفقع «الناشف» والناس فى مصر يطلقون على الخبز اسم «العيش» أى الحياة، إنهم الوحيدون فى العالم الذين يسمونه العيش، إنه مقدس لديهم، فإذا رأى الواحد منها قطعة فى الطريق ينحنى ليقبلها ويضعها إلى جوار الجدار بعيداً عن مسار المارة، وإذا أردنا أن نضرب المثل على متانة العلاقة وحسن الصلة، نقول:
«دا أنا واكل معاه عيش وملح»
وإذا أتى الصديق فعلاً سيئاً
«دا خان العيش والملح»
لا يمكن للمصرى، أن يسرق رغيفاً من الخبز. فى الصباح يقف الرجال حول عربة الفول يأكلون إفطارهم، بعد أن ينتهى كل منهم يخبر البائع بعدد الأرغفة التى أكلها، مستحيل أن يخطئ، فاللقمة الحرام تصيب الإنسان بالأذى، كله إلا العيش.
البروز الثانى يحمل أوانى السلطة، خضراء أو طحينة، وزجاجات الزيت بأنواعه، الزيتون، والحار، والفرنساوى «زيت مستخرج من بذرة القطن»، وحديثاً زيت الذرة.
معظم الزبائن الذين يتناولون إفطارهم وقوفاً من الموظفين الصغار أو الحرفيين، الأكل فى الشارع، ثم تناول الشاى أو القهوة وتدخين المعسل صباحاً بمثابة اجتياز مراحل فاصلة بين البيت والعمل، نوع من التدرج، والضرورة أيضاً، إذ يستيقظ معظم الرجال، والأطفال يغطون فى نوم عميق، فلا يرغبون فى إزعاجهم، مهمة بائع الفول أن يغرف الحبات والمرق فى الأطباق الصغيرة، وأن يجهز الوجبة بإضافة الملح والكمون والشطة إذا رغب الزبون، ثم يقوم مساعده بغسل الأطباق فى جردل ملىء بالماء.
حركات البائع سريعة، بارعة، يقف فوق صندوق خشبى، يجعله فى مستوى أعلى من العربة، لا يسأل أى زبون كم رغيفاً أكل، أو كم بصلة التهم!! الوجبة لها سعر، فإذا تناول الزبون أكثر من رغيف أخبر به، لا يمكن المغالطة فى العيش، ربما كان احترام الخبز قادماً من الزمن المصرى العتيق، ألم يصور جثمان «أوزير» على جدران المعابد والمقابر مدفوناً تحت الأرض وسنابل القمح تنبت منه؟
الفول ليس طعام الإفطار القاهرى الوحيد، سنرى عند مداخل بعض الحارات، عربات أخرى، لكنها تقدم «الكسكسى» طعاماً للإفطار، القاهريون يعرفونه محلى بالسكر الناعم الأبيض ويضاف إليه اللبن، لكنهم لا يأكلونه مضافاً إليه الخضروات واللحم مثل شمال أفريقيا.
عربات أخرى تقدم الفطائر المقلية فى الزيت أو السمن، فطائر صغيرة شهية، ونرى عدداً منها معروضاً فوق بعضه البعض، يتناول البائع إحداها، وعلى طرف السكين المثلث يقلبها فى الهواء ليتلقاها بمهارة، ثم يضعها فى الإناء الذى يحتفظ بحرارته موقد صغير، ضعيف اللهب موضوع أسفله.
المهارة فى حركات البائعين قاسم مشترك، الخفة، المهارة، القدرة على تلبية طلبات الجميع فى وقت واحد، ولكنها لا تهدف إلى ذلك فقط، إنما تعنى أيضاً مهارة البائع وشطارته.
السرعة والمهارة، الخفة والإتقان، شرطان متلازمان لأداء القاهرى الصميم أو كما يعرف بين المصريين بابن البلد، ابن البلد الذى تمكن «دنى لو» من خلال عينه المرهفة، الحساسة، التى تتقن الإمساك باللحظة أن يسجل ملامحه ظاهرة وباطنة.
أبناء القاهرة
بسعيه فى القاهرة، قديمة أو حديثة، يضفى عليها خصوصية، أهم ما فى المدن ناسها، أهلها، خاصة المقيمين، الذين يجمعون داخلهم الزمان المنقضى والمكان المقيم.
مثل ابن البلد لا نجد فى أى مدينة أخرى، إنه يسعى فى القاهرة، ابن البلد هو القاهرى الصميم، الذى لم يفد إليها من منطقة أخرى، المستقر، المحتوى ملامحها.
نراه فى الشوارع، الحوارى، الدروب، الأزقة، طبعاً فى الأسواق، والوكالات، والمقاهى، حاضر دائماً فى الأفلام والمسرحيات المصرية، يطالعنا من خلال لوحات «دنى لو» التى يحتويها هذا الكتاب.
نراه يرتدى زيه التقليدى، الجلباب واسع الأكمام، المفتوح عند الصدر، يبرز من تحته الصديرى المصنوع من القطن، وأزراره العديدة، المنتظمة المتعاقبة، حول عنقه شال من الصوف شتاءً، أو القطن المنسوج يدوياً صيفاً، أما غطاء الرأس فهو «الطاقية» والتى يلف حولها شالاً من الحرير أو القطن، قوامه فاره، صدره بارز، يعلن فى كل خطوة أو إشارة منه عن تمكنه، وقدرته، خاصة إذا كان صاحب تجارة أو مكانة فى السوق، ممن يطلق عليهم لقب «معلم»، لقب يمنحه الناس لمن أمضى قدراً معقولاً يبيع ويشترى ويصدق فى العهود ويُبدى آيات الشهامة، وينجد الضعيف، ويتحدى السلطة أحياناً، «المعلمة» مطلقة، غير مقصورة على فرع معين من النشاط، تشمل جميع الأنشطة، إنها تعنى معرفة صاحبها بأسرار مهنته، والعلاقات بين الناس، ومعرفته بالأصول،
والأصول فى لغة الحياة اليومية للمصريين تعنى منظومة القيم والعادات المتوارثة داخل هذا المجتمع القديم، وربما كانت كلمة «الأصول» تعنى أو تقابل اللفظ المصرى الفرعونى «ماعت» ابن البلد الذى يعرف الأصول، يقيم الحق، ينتصر له، يقف إلى جانب الضعيف، شهم، عنده مروءة، جدع، والجدع هو الناصح، الذكى، الشجاع، الكريم، ابن البلد هو القاهرى الصميم، تعرف المدينة فئات عديدة، تجاراً، علماء دين، أفندية «أى مثقفين»، أثرياء، لكن ابن البلد هو القاهرى الصميم الذى يعيش فى المناطق العتيقة، ويرتبط بالمكان، وعادات الناس، عرفت بعضهم لم يغادر الشارع أو الحارة التى يعيش فيها معظم سنوات عمره.
منهم معلم ابن بلد، كان صاحب فرن شهير فى الجمالية، مقره فى حارة درب الطبلاوى، كان بيته على بعد أمتار من الفرن، ثم حدث شرخ فى المنزل القديم، اضطره إلى الانتقال، بالتحديد إلى المغربلين، أى على بعد أقل من كيلو متر، كان يقطع المسافة يومياً مشياً، بدأ يظهر عليه الحزن، والاكتئاب، كان يحدثنى بأسى عن غربته التى يعانيها هناك.
لكن يا معلم أنت لم تذهب بعيداً، والناس هناك طيبون..
يهز رأسه: هذا صحيح، لكنه طوال مراحل عمره اعتاد أن يستيقظ فجراً، أن يخرج من الحارة مع جيرانه للصلاة فى مسجد الحسين، ثم يعود إلى الفرن، يتبادل الصباح مع هذا، والحوار مع ذاك، يعرف أهل الحارة فرداً، فرداً، رأى بعينيه الفتيات وهن صغيرات، ثم نموهن مع الزمن، وزواجهن، ثم مجيئهن مع أطفالهن، لم يهدأ إلا عندما عثر على مسكن ملائم فعاد إلى الحارة، وكان يردد دائماً أن روحه ردت إليه يوم رجوعه.
كان المصريون كأبناء أقدم مجتمع زراعى فى التاريخ لا يتصورون أنفسهم فى أرض غريبة، وعندما نفى الفرعون موظفه الكبير «سنوحى» إلى أحد بلاد البحر، راح يرسل إليه الكلمات المؤثرة ليعفو عنه، ليعود فيدفن فى أرض مصر المقدسة.
لقد تغير هذا الحال لأول مرة فى التاريخ منذ حوالى ثلاثين عاماً، عندما اضطر إلى الهجرة إلى بلاد النفط، حيث الثروة الطارئة، ومع ازدياد سوء الأحوال الاقتصادية تزايدت الهجرة إلى سائر الاتجاهات، لكن مازال معظم أبناء البلد فى القاهرة القديمة يسعون، ولا يتصورون أنفسهم فى بلد آخر.
«البلد» يعنى الوطن كله، تماماً كما يطلق اسم «مصر» على «القاهرة» فى الريف، بحرى أو قبلى، إذا قصد أحدهم السفر إلى العاصمة يقول: أنا رايح مصر.
ابن البلد تعنى إذن أنه ابن مصر، ابن البلد يؤمن بالعمل، يردد: «الإيد البطالة نجسة» أو «الشغل عبادة»، يؤمن بالعلم، ربما نلتقى بأحدهم لا يجيد القراءة أو الكتابة لكنه مرجع فى أصول العلاقات الإنسانية، والتقاليد، ودقائق الحياة، يردد من ذخيرة الأمثال الشعبية، «العلم بالشىء ولا الجهل به» من صفاته الذكاء، والشطارة «يفهمها وهى طايرة» وقوة الذاكرة. كنت أعرف معلماً صاحب مقهى، كان يحفظ فى ذاكرته جميع تفاصيل الحسابات التى تخص زبائنه يومياً، وآخر النهار إذا أبدى زبون شكاً فى شرب فنجان قهوة أو كوب شاى، عندئذ يميل المعلم قليلاً ويذكره بالمناسبة التى طلب فيها الشاى «لما جالك الأفندى الرفيع ده».
يفضل الاعتماد على نفسه «حمارتك العرجاء ولا سؤال اللئيم» فإذا ضاقت الحال، وصعب الأمر فإن «الجار للجار»، ميال إلى إصلاح المتخاصمين والتوفيق بينهما، «اسعى فى الخير ولا تسعى فى الشر» من الأفضل حل المشاكل كلها بعيداً عن البوليس، وكل أشكال السلطة، العلاقة مع السلطة حافلة بتعقيدات عديدة، من الأفضل تجنبها بقدر الإمكان، من هنا الكلمة عند ابن البلد قانون أهم بكثير من المواد الرسمية، يقول مؤكداً موقفه:
«أنا إديت كلمة.. والرجل يتمسك من كلمته»
فى حواره اليومى تورية، ومستويات متعددة، كل جملة لها ظاهر وباطن، نتيجة لميراث القهر التاريخى، منذ أن فقدت مصر استقلالها منذ حوالى ثلاثة وعشرين قرناً، تعاقب عليها الحكام القساة من بطالمة ورومان وعرب وأتراك وأجانب، أصبح لكل طائفة لغتها، وللتعاملات اليومية إشارات موحية.
لنتأمل طريقة ابن البلد فى الصباح، يقول «صباح الخير» لكنه لا يكتفى بذلك، بل لديه تنويع على معنى الصباح، «صباح الورد» «صباح الفل» «صباح القشطة» «نهارنا لبن» «نهارنا نادى» «يا مساء الجمال» «يا مساء العندليب» «يا مساء الهنا».
إذا أراد أن يغلق باب النقاش فى صفقة يقول
«يفتح الله»
أو السعر الذى تعرضه لا يناسب، إذا غضب يصيح
«توكل على الله»
أى: أغرب عن وجهى
إذا كان يأكل، أيا كان حجم ونوعية الطعام، فلابد أن يوجه الدعوة إلى أى مار به.
«تفضل معانا»
ومعناها الحقيقى: ما أمامى يكفينى فقط
ينادى على بضاعته ملحناً صوته، رافعا من شأنه
«كهرمان يا عدس»
«الملاح.. الملاح»
يعنى الكتاكيت الصغار
«يا لوز يا حلو..» أى الفول المدمس
للطعام عنده شأن، إذا أكل مع شخص ما يعتبر ذلك مثل الميثاق أو المعاهدة، يردد دائماً: «دا كان بينا عيش وملح»، وبالتالى لا يمكن أن يغدر بمن شاركه المائدة يوماً.
يراعى الجار، لا يغازل امرأة جاره، نتذكر القسم الذى كان يدلى به المصرى القديم أمام محكمة الإله أوزيريس فى العصر الفرعوني
«لم ألوث ماء النيل.. لم أغازل امرأة جارى»
إنه يغار على أى أنثى تمت إلى المنطقة التى يعيش فيها، وقد يشتبك مع أى غريب يحاول مضايقتها، هى عنده «بنت الحتة» أى ابنة المنطقة، وبالتالى يجب حمايتها من أى مضايقة، وإذا أبدى الغزل فإنه يختار ألفاظه بعناية، وحتى سنوات قريبة كان الغزل القاهرى يشبه الشعر.
«يا غزال يا جميل..»
«يا أرض احفظى ما عليك»
«يا أرض اتهدى ما عليك قدى»
بقدر الإمكان يحاول تجنب العراك، أو العنف، لكن إذا مس شرفه، أو تعرض للإهانة، فإن شعاره هناك «يا روح ما بعدك روح»، يعتز جداً بالمنطقة التى ينتمى إليها مباشرة، احترامه للجيران مقدس، يقول:
«دا ابن حتتنا»
يتعصب لمنطقته فى مواجهة المناطق الأخرى، الانتماء إلى المكان والارتباط به أساسى، ابن البلد يمكن أن يكون مسلماً أو مسيحياً أو يهودياً، تدينه معتدل، يتمسك من خلال الدين بالقيم «امشى عدل يحتار عدوك فيك».
ساخر، مرح، محب للحياة، يحترم الموت مثل كل المصريين، يرقص فى الموالد واحتفالات الزواج بالعصا، وإتقان اللعب بها يثير الإعجاب، فى الأفراح يقوم بالخدمة، وفى المآتم يقف لتقبل العزاء إلى جانب أهل الفقيد، يؤدى ما يعرف عنده بالواجب، واجبه هو تجاه الآخر.
ابن البلد، فى الأزمنة القديمة، كان التركى أو البدوى، وأثرياء المصريين المتفرنجين إذا أرادوا ذم شيء ما، يقولون باحتقار «دا بلدى» أى «دا مصرى»، لكن عند المصريين الذين يعون ذواتهم، إذا أرادوا إضفاء الصفات الحسنة على شخص ما وصفوه بأنه «دا ابن بلد».
أولاد البلد، هم الذين سعى دنى لو إليهم، وسجل ملامحهم فى لحظات استثنائية، ورصد العيون القاهرية الفسيحة التى تشبه عيون أقنعة الفيوم، عين أولاد البلد.
لكن، الحديث عن أبناء القاهرة الأصلاء، لا يكتمل إلا بالمقهى. المقهى!
إنه عالمهم، وعالمى أيضاً.